"أنت لست سوى يهودي كاره لنفسه ... أما رئيسك فمعادٍ للسامية".... مقولة سمعتها عام 1990، عندما كنت أعمل مستشاراً لوزير الخارجية السابق جيمس بيكر، وكنت أقوم بتنوير مجموعة يهودية من أطلنطا. وكم كانت الكلمات صاعقة لأذني، إلى درجة أنني لم أصدق ما سمعت. كان جيمس بيكر بالفعل شديد القسوة على إسرائيل متى ما دعت الضرورة، غير أنه لم يكن معادياً للسامية. وبعد مضي عشرين عاماً على ذلك الحوار، ها نحن نعود تارة أخرى إلى النقطة نفسها. والضحية هذه المرة مرشح رئاسي "ديمقراطي" لم يحظ بعد بتأييد حزبه الرسمي لترشيحه، ألا وهو "باراك أوباما". فهو يواجه حالياً موجة هجوم عنيف من قبل جماعات مشوشة الفكر والمعلومات من اليهود الأميركيين. وفي هذه المرة أيضاً أثيرت بحقه الاتهامات غير المسؤولة بمعاداة إسرائيل. ولتحري الوضوح في هذه المسألة فلأقل إن بعض هذه الاتهامات تعود إلى الغباء السياسي الذي غالباً ما يصحب الحملات الانتخابية. غير أن هذا الهجوم المستمر على السيناتور "باراك أوباما"، وكذلك على "روبرت مالي"، الموظف السابق بإدارة كلينتون وأحد المستشارين غير الرسميين الكثر لـ"أوباما"، يجب عدم النظر إليه كما لو كان مجرد حدث سياسي عابر، قصد به صرف الدعم الانتخابي عن حملة "أوباما". والسبب الذي يدعوني إلى قول هذا، هو أن في الهجوم ما يعكس إفراطاً في ردة فعل الجالية اليهودية الأميركية، من شأنه أن يقوض مصداقية مواقف الجالية، إلى جانب إضراره بالمصالح القومية الأميركية نفسها في نهاية المطاف. لست على صلة بأي حملة سياسية كانت، لكني عملت على امتداد عشرين عاماً كموظف استشاري بوزارة الخارجية، تحت إدارات "جمهورية" و"ديمقراطية" متعاقبة، وكان اختصاصي هو مفاوضات السلام الإسرائيلية-العربية. وفوق ذلك، فأنا صديق شخصي لـ"روبرت مالي"، الذي عمل مساعداً خاصاً للرئيس بيل كلينتون في الشؤون الإسرائيلية-العربية خلال الفترة، وانزعجت جداً وأنا أراه يتعرض لهجوم شرس من قبل بعض الجماعات اليهودية التي وصفته بالعداء لإسرائيل وممالأة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. ولعل الهجوم الأشد شراسة الذي وجه إليه من قبل هذه الجماعات، نشر سلسلة من المقالات والمواد الصحفية المعادية له، بسبب تأسيس وتحرير والده لمجلة "أفريقيا وآسيا" اليسارية خلال عقد الستينيات، وهي مجلة متصالحة مع منظمة التحرير الفلسطينية وغيرها من الحركات السياسية الشبيهة في الدول النامية. ولكن ماذا يضير "مالي" من هذا أو من مجرد انتقاداته الموضوعية لما يصدر عن إسرائيل من أخطاء واضحة أحياناً؟ فقد بعث خمسة من زملائه، اثنان منهم سفيران سابقان لإسرائيل: "مارتن إنديك"، "دانيل كورتزر"، إلى جانب مفاوض السلام السابق "دنيس روس"، وكذلك مستشار الأمن القومي السابق لإدارة الرئيس كلينتون، "صمويل بيرجر"، برسالة مشتركة أزالت أي شكوك حول التزام "مالي" الثابت إزاء دعم إسرائيل، إلى جانب نفيها لتهمة العداء للسامية عنه. والحقيقة التي يرفض الكثير من اليهود الأميركيين الاعتراف بها هي أنه لم يعد من صراع قائم بين أصدقاء إسرائيل وأعدائها في أميركا. فقد حسم هذا الصراع منذ زمن لصالح تل أبيب، لدرجة أنه لم يعد يجرؤ أي سياسي ذو وزن على الحفاظ على موقعه دون إبداء تأييده الثابت لإسرائيل. لكن وعلى رغم هذا الانتصار الذي حققته الجالية اليهودية، يتصاعد قلقها وردود أفعالها إزاء أي انتقاد يصدر بحق إسرائيل، وكأن السماء تتهاوى على عروشها. أنظر إلى ردة الفعل اليهودية هذه - وأنا نفسي يهودي بالمناسبة- إزاء نشر كتاب الرئيس الأسبق جيمي كارتر الذي قارن فيه بين الصهيونية ونظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا، وكذلك ردة الفعل إزاء كتاب الأستاذين الجامعيين "ستيفن والت" و"جون ميرشماير" عما وصفاه بـ"اللوبي الإسرائيلي". وبسبب هذه الحساسية المفرطة إزاء أي انتقادات توجه للدولة العبرية، بما فيها مجرد التساؤل المشروع عن مدى الضرر الذي تلحقه بعض السياسات الإسرائيلية بعملية السلام وأمن إسرائيل نفسها، إلى جانب إلحاقها الضرر بالمصالح الأميركية، فقد ساد بين أفراد الجالية اليهودية تجريم وقذف كل من يثير مثل هذه التساؤلات بسيل من اتهامات العداء للسامية ولإسرائيل. بل لم تقبل الجالية حتى الانتقادات التي توجهها شخصيات يهودية مثلي لسلوك إسرائيل وسياساتها الخاطئة أحياناً، بزعم أن مثل هذه الانتقادات توفر وقوداً إعلامياً لحملات أعداء إسرائيل. والمشكلة أن لعقلية الـ"نحن" والـ"هم" هذه جذوراً عميقة وشديدة الإضرار بمساعي السلام الإسرائيلي- العربي. إن صبغ الجالية اليهودية الأميركية لكل انتقادات توجه لإسرائيل بصبغة العداء للسامية وإسرائيل، فيه ضرر بالغ بإسرائيل وأمنها وبالمصالح الأميركية معاً. آرون ديفيد ميلر باحث رئيسي بمركز ودرو ويلسون ومستشار بوزارة الخارجية الأميركية لستة وزراء سابقين. ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"